بسم
الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الكتاب
القيّم النفيس:
((التفكير الفلسفي في الإسلام))
لرائد
الفلسفة الإسلامية ((الثاني)):
شيخ الإسلام والجامع
الأزهر الشريف
فضيلة
الإمام الأكبر العارف بالله أ. د. عبد الحليم محمود
الأشعري المالكي الشاذلي
(1328
– 1398هـ/ 1910 - 1978م) رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
إعداد
أشهب
المالكي
بسم
الله الرحمن الرحيم
اللهم
إنا نستعينك ونستهديك, ونسألك الرعاية و التوفيق.
أما
بعد, فهذا كتاب يهدف إلى تأريخ ((الفكر الفلسفي))
في الإسلام, في المشرق إلى نهاية عهد "الغزالي"
حجة الإسلام رضوان الله عليه.
و ((التفكير الإسلامي)) متشعب الجوانب, مترامي الأطراف, ولا
يمكن لشخص ما أن يلم به في جميع مناحيه وبيئاته, ولذلك: حددنا بحثنا بـــ((التفكير الفلسفي)). على أن ((التفكير
الفلسفي)) نفسه ضخم هائل, ودراسته تحتاج إلى أن نبدأ به منذ نشأته؛ بل إن
نشأته نفسها تحتاج إلى دراسة الجو الذي نشأ فيه. سندرس إن شاء الله هذا الجو.
وسندرس
أيضًا ((القرآن الكريم)) من حيث القضايا الدينية
المتصلة بموضوع الفلسفة التي أتى بها واستدل عليها. والقرآن وإن كان كتابًا مقدسًا,
ووحيًا من السماء, وليس ثمرة من ثمار التفكير البشري: فإنه الأساس الأول الذي مهد
لما جدّ بعد ذلك من مذاهب وآراء.
وسنسير
مع ((التفكير الإسلامي)) سيرًا زمنيًا: فسندرس
النزعات الأولى, والآراء التي تكاد تكون فردية, والفرق التي لم تتصل كثيرًا بالجدل
النظري حتى نصل إلى"الكندي" و "الفارابي" و"ابن
سينا", فسندرسهم بعد دراسة لمرحلة الترجمة الأولى في الإسلام في العهد العباسي على الخصوص.
وسندرس"الغزالي" رضي الله عنه وأثره في تهافت
الفلسفة والفلاسفة. ونختتم الكتاب بدراسة حجة الإسلام رضي
الله عنه, فتكون دراسته أشبه بخاتمة الكتاب.
وقد
سبق أن درسنا هذه الموضوعات. ودرَّسناها. وكتبنا عن بعضها في إيجاز أحيانًا. وفي
استفاضة أحيانًا أخرى. وإنا لنرجو من الله تعالى – في كل ما نأتي وما ندع –
الهداية والتوفيق.
(2)
ولقد
توهم بعض الكتاب, أن ((التفكير الإسلامي)) أخذ
يتدرج وينمو شيئًا فشيئًا على مر الزمن حتى أصبح ناضجًا عميقًا, وحاولوا – في شيء
من التعسّف – أن يقدروا تيار ((التفكير الإسلامي))
على هذا الأساس, ويتحدثوا عنه طفلاً, فشابًا, فرجلاً.
ولكن
((التفكير الإسلامي)) بدأ – في قوةٍ جارفةٍ –
بالقرآن – كلام الله تعالى – فاتخذ منه أساسًا, واتخذ من أحاديث الرسول صلى الله
عليه وسلم, قاعدة وهاديًا.
وإذا
ما تركنا القرآن ومحمدًا صلى الله عليه وسلم جانبًا: لأنهما أمران إلهيان, فإنا
نرى في بدء الإسلام الأفذاذ في مختلف النواحي:كــــ: "خالد
بن الوليد" رضي الله عنه في رسم الخطة الحربية, وتنفيذها. وذلك فن وعبقرية.
و"عمر بن الخطاب" رضي الله عنه في الإدارة,
والسياسة, والتشريع, وإنه ليندر أن تجد من يماثلهما على مر العصور.
وإذا
ضربنا المثل بالتشريع, فإننا نجد تيارين يسيران متجاورين من أهل الرأي وأهل الحديث:
فقد كان هؤلاء وهؤلاء يسيرون جنبًا إلى جنب منذ أن بدأت الدولة
الإسلامية ولا يزالون كذلك إلى الآن.
كان
هناك: "ربيعة الرأي" و"ابن المسيب". والأول يمثل مدرسة الرأي, والثاني
يمثل مدرسة الحديث.
وكان
هناك: "إبراهيم النخعي" وبجواره في
الكوفة نفسها مُحدّث الكوفة:"عامر بن شُرحبِيل الشعبي".
ثم
كان"أبو حنيفة" يمثل مدرسة الرأى, و"مالك" يمثل مدرسة الحديث.
وإذا
نظرنا إلى ((التيار الفلسفي)), فإننا نجد "المشبهة" يسيرون جنبًا إلى جنب مع المعتزلة,
ومع"الكندي", و"الفارابي",
و"ابن سينا"؛ ونجد"ابن باجه" و"ابن
الطفيل": متأخرين في النشأة عن"الفارابي" و"ابن سينا"
ولم يبلغا شأوهما.
والأشاعرة كانت نشأتهم بعد المعتزلة,
ومدرسة"ابن تيمية" أتت بعد مدرسة"الأشعري".
فهل
كان المعتزلة أقل عمقًا, وأقل نضجًا من الأشاعرة؛ وهل كان الأشاعرة أقل تفكيرًا من
مدرسة"ابن تيمية"؟!.
ثم
ما هذا الجنين الذي نشأ وترعرع وشب وانتهى إلى مقدمة"ابن
خلدون"؟!.
الواقع
أن ((التفكير الإسلامي)) كان بين مدٍّ وجزر, وخمول
ونشاط, وضعف وقوة.
وسندرسه
على هذا الأساس إن شاء الله تعالى.
(3)
وسيرى
القراء أننا نبدي رأينا في المسائل والآراء ونحكم عليها, وليس هذا مسلك جميع
المؤرخين, فـــ"الشهرستاني" مثلاً يقول
في كتابه:"الملل و النحل":
((وشرطي
على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم؛ من غير تعصب لهم, ولا كسرٍ
عليهم, دون أن أبيّن صحيحه من فاسده, وأُعيِّن حقه من باطله, وإن كان لا يخفى على
الأفهام في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق, ونفثات الباطل, وبالله التوفيق)).
بيد
أن"الشهرستاني" لم يلتزم هذه الخطة,
ونقضها بعد صفحات تعد على الأصابع, فيقول: ((فالمعتزلة مشبهة الأفعال. والمشبهة
حلولية الصفات. وكل واحد منهم أعور بأي عينيه شاء. فإن من قال: إنما يحسن منه ما
يحسن منا, ويقبح منه ما يقبح منا, فقد شبه الخالق بالخلق.
ومن قال: يوصف الباري تعالى بما يوصف به الخلق,
أو يوصف الخلق بما يوصف به الباري تعالى, فقد اعتزل عن الحق.."
"وشبه
النبي صلى الله عليه وسلم كل فرقة ضالة من هذه الأمة, بأمة ضالة من الأمم السالفة
فقال:
"القدرية: مجوس هذه الأمة".
وقال:"المشبهة يهود هذه الأمة, والرّوافض نصاراها".
لم
ير"الشهرستاني" أن الواجب يحتم عليه
بيان قيمة هذين الحديثين: من ناحية الوضع أوالضعف؛ ذلك أن هذين الحديثين يصوران
رأى"الشهرستاني" نفسه.
ويرى
بعض الذين ينتسبون للناحية العلمية بالمعنى الحديث, أنه لا يجوز للإنسان أن يحكم
على المسائل والآراء.. بالحسن أو القبح, أو بالخير أو الشر؛ لأن ذلك لا مقياس له!.
ولكني
لم أتابع"الشهرستاني" في حيدته المزعومة,
فهو نفسه لم يتبعها. ولم أجار النزعة العلمية الحديثة؛ لأنني لا أعرف كيف يكتب
مؤمن في مسائل الإيمان دون أن يبدى رأيه؟!.
وأريد أن أعلنها صريحةً واضحةً: إنني أكتب في
هذا الموضوع وأنا مسلمٌ معتزٌ بإسلامي, وإذا لم يجد أرباب النزعة العلمية الحديثة
مقياسًا للحكم, فسأتخذ أنا ((الإسلام)) مقياسًا
للحكم على الآراء.
والإسلام: يوجب عرض الآراء في دقة, سواء أكانت
مؤيدة له أم معارضة. وقد ضرب لنا القرآن في ذلك خير الأمثال, حينما تحدّث إلينا عن
اعتراضات المشركين على الرسالة المُحمّدية.
والإمام"الغزالي" رضي الله عنه: يوجب
عرض آراء المعارضين أحسن عرض, وتصويرها أحسن تصوير: إنه يوجب عرضها وتصويرها كما
يعرضها ويصورها زعماء المذهب أنفسهم, ثم بعد ذلك يأتي دور النقد والتمحيص.
على
هذا النمط سنسير إن شاء الله تعالى.
(4)
وقد
جرينا على أن علم الكلام: جزء من ((التفكير الفلسفي)) في الإسلام , وجارينا في هذا
الكثيرين من مؤرخي ((الفلسفة الإسلامية)), أمثال:"رينان" والمرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ"مصطفى عبد الرازق".
يقول"رينان": ((إن الحركة الفلسفية الحقيقية في
الإسلام ينبغي أن تلتمس في مذاهب المتكلمين)).
ويقول
الشيخ"مصطفى عبد الرازق" رحمه الله:
((أصبح
لفظ الفلسفة الإسلامية أو العربية: شاملا – كما بينه الأستاذ "هرتن" –
لما يسمى فلسفة أو حكمة, لمباحث "علم الكلام". وقد
اشتد الميل إلى اعتبار "التصوّف" أيضًا
من شعب هذه الفلسفة, خصوصًا في العهد الأخير الذي عني فيه المستشرقون بدراسة التصوّف)). التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية: ص 26 – 27.
بل
إن الشيخ"مصطفى عبد الرزاق" رحمه الله يعد"أصول الفقه" من الفلسفة الإسلامية.
وسنبدي
رأينا – إن شاء الله – في التصوّف و أصول
الفقه: هل هما من الفلسفة أم لا؟ عندما نتحدث عن ((التيار
الفلسفي)) البحت فيما يلي, إن شاء الله تعالى.
(5)
ولقد
شاع بين كثير من الناس: أن الفلسفة موضوعٌ غامضٌ مبهمٌ.
ولعل
من الأسباب التي روجت هذه الإشاعة:
1 - أن بعض الفلاسفة كان يتعمد الغموض و
الإبهام, حتى لقد قال"هرقليطس" عن نفسه:
((إنه لا يفصح عن الفكر ولا يخفيه, ولكنه يشير إليه.
و"ابن سينا" يسمي أحد كتبه: ((الإشارات و التنبيهات)).
2 - ثم إن الفلاسفة: لم تكن عنايتهم
باللغة والأدب كعناية الأدباء. وكان من الطبيعي: أن تكون سلاسة الأسلوب, وفصاحة
التعبير عند بعضهم أقل منها عند الأدباء.
3 - ومما لا شك فيه أن موضوع الفلسفة لا
يمتاز بالسهولة والوضوح. هذه الأسباب كلها أو بعضها: كانت سببًا في انتشار تلك
الإشاعة.
وسوف
لا أتعمد الغموض – إن شاء الله تعالى – وسأعمل – جهدي – ليكون الأسلوب سهلا,
والموضوع واضحًا, وأرجو ألا يجد القارئ من ذلك إلا ما يسر.
ولكن
هذا الأسلوب الذي أعمل جهدي في أن يكون سهلا: لا يعود الطلبة على الأساليب الفلسفية,
ولا مناص من سد هذا النقص.
ولذلك
اقتبست كثيرًا من النصوص الفلسفية على اختلاف أساليبها, وجاريت في هذا المرحوم
الأستاذ الأكبر الشيخ"مصطفى عبد الرزاق" في
كتابه: ((تمهيدٌ لتاريخ الفلسفة الإسلامية)) الذي
نشر صحفه:
((في
صياغتها التعليمية, التي تراعي حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة, وحسن
التدبر والفهم للأساليب المتفاوتة وإن لم يخفِّ ذلك على ذوق المطالعين جميعًا)).
(6)
وكلمة
أخيرة: إن النزعة الغربية حاولت – منذ زمن بعيد – اتهام الشرقيين بأنهم بطبيعتهم
أقل من الغربيين في جميع ميادين الحضارة!!, وتأثر بهذه الفكرة بعض مؤرخي ((الفلسفة الإسلامية)): فكتبوا في ((الفلسفة الإسلامية)) على أنها مجرد تقليد, أو تلفيق,
أو ترجمة للفلسفة اليونانية!.
ولعل
من الخير أن ننصف دائمًا – كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا – هذا الشرق المظلوم, فنبين
أصالة ((الفلسفة الإسلامية)) فيما لها فيه من
أصالة, وألا نحيف عليها في بعض ما تعتز به, وبالله الهداية والتوفيق.
د. عبد الحليم محمود
عفا
الله عنه
شيخ
الجامع الأزهر الشريف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق